الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما بين أن سبب كيدودة انفطارهن حلالة العظمة التي منها كثرة الملائكة وشناعة الكفر، بين لها سببًا آخر وهو عظيم قولهم، فقال: {والملائكة} أي والحال أنهم، وعدل عن التأنيث مراعاة للفظ إلى التذكير وضمير الجمع، إشارة إلى قوة التسبيح وكثرة المسبحين فقال: {يسبحون} أي يوقعون التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى ملتبسين {بحمد ربهم} أي بإثبات الكمال للمحسن إليهم تسبيحًا يليق بما لهم- بما أشارت إليه الإضافة دائمًا لا يفترون، فلهم بذلك زجل وأصوات لا تحملها العقول، ولا تثبت لها الجبال، فلا تستبعدن ذلك، فكم من صاعقة سمعتها من السحاب فرجت لها الأرض فتصدعت لها الأبنية المتينة والجبال الصلاب، ولفت القول إلى صفة الإحسان لمدح الملائكة بالإشارة إلى أنهم عرفوا إحسان المحسن وعملوا في الشكر بما اقتضاه إحسانه فصار تعريضًا بذم الكفرة بما غطوا من إحسانه، وتذرعوا من كفرانه.ولما كانوا لما عندهم من العلم بجلال الله سبحانه يستحيون منه سبحانه كما يفعل أهل الأرض ويقولون ما لا يليق بحضرته الشماء وجنابه الأسمى، وكانوا يعلمون مما جادلهم سبحانه عنهم أن له بهم عناية، فكانوا يرون أن الأقرب إلى رضاه الاستغفار لهم، فلذلك عبر عنهم سبحانه بقوله حاذقًا ما أوجبه السياق في {غافر} من ذكر الإيمان، إشارة إلى أن أقرب الخلق من العرش كأبعد الناس في الإيمان المشروط بالغيب إبلاغًا في التنزيه لأنه لا مقتضى له هنا: {ويستغفرون} أي وهم مع التسبيح يطلبون الغفران {لمن في الأرض} لما يرون من شدة تقصيرهم في الوفاء بحق تلك العظمة، التي لا تضاهى، أما للمؤمن فمطلقًا، وأما للكافر فبتأخير المعالجة، وكذا لبقية الحيوانات، وذلك لما يهولهم مما يشاهدونه من عظمة ذي الكبرياء وجلالة ذي الجبروت.قال ابن برجان: لم يشأ الله جل ذكره كون شيء إلا قيض ملائكة من عباده يشفعون في كونه، وكذلك في إبقاء ما شاء إبقاءه وإعدام ما شاء إعدامه، وهذه أصول الشفاعة فلا تكن من الممترين، وألطف من ذلك أن تكون كيدودة انفطارهن في حال تسبيح الملائكة واستغفارهم لما يرين من فوقهن من العظمة، ومن تحتهن من ذنوب الثقلين، فلولا ذكرهم لتفطرن وحضر العذاب، فعوجل الخلق بالهلاك، وقامت القيامة، وقضي الأمر، وإذا كانت كيدودة الانفطار مع هذا التنزيه والاستغفار، فما ظنك بما يكون لو عرى الأمر عنه وخلا منه، ولذلك ذكر العموم هنا ولم يخص المؤمنين بالاستغفار كما في {غافر} لما اقتضاه السياق هنا من العموم، ولأن مقصود غافر تصنيف الناس في الآخرة صنفين وتوفية كل ما يستحقه فناسب ذلك إفراد الذين تلبسوا بالإيمان ومقصود هذه الجمع على الدين في الدنيا فناسب الدعاء للكل ليجازى كل بما يستحقه من إطلاق المغفرة في الدارين للمؤمن وتقييدها بالتأخير في الدنيا للكافر.ولما كانت أفعال أهل الأرض وأقوالهم عظيمة المخالفة لما يرضيه سبحانه فهم يستحقون المعاجلة بسببها، أجاب من كأنه قال: هذا يستجاب لهم في المؤمنين، فكيف يستجاب لهم في الكافرين ليجمع الكلام التهييب والتهويل في أوله والبشارة واللطف والتيسير في آخره، فقال لافتًا القول عن صفة الإحسان إلى الاسم الأعظم تعريفًا بعظيم الأمر حملًا على لزوم الحمد وإدامة الشكر: {ألا إن الله} أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال، فله جميع العظمة، وأكد لأن ذلك لعظمه لا يكاد يصدق {هو} أي وحده، ورتب وصفيه سبحانه على أعلى وجوه البلاغة فبدأ بما أفهم إجابة الملائكة وأتبعه الإعلام بمزيد الإكرام فقال: {الغفور الرحيم} أي العام الستر والإكرام على الوجه الأبلغ أما لأهل الإيمان فواضح دنيا وآخرة، وأما لأهل الكفران ففي الدنيا فهو يرزقهم ويعافيهم ويملي لهم {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة} [فاطر: 45] وأما غير الله فلا يغفر لأهل معصيته، ولو أراد ذلك ما تمكن.ولما كان التقدير: فالذين تولوه وماتوا في ولايته فهو يغفر ذنوبهم بمعنى أنه يزيلها عينًا وأثرًا، عطف عليه قوله: {والذين اتخذوا} أي عالجوا فطرهم الأولى وعقولهم حتى أخذوا {من دونه} أي من أدنى رتبة من رتبته {أولياء} يعبدونهم كالأصنام وكل من اتبع هواه في شيء من الأشياء، فقد اتخذ الشيطان الآمر له بذلك وليًا من دون الله بمخالفة أمره.ولما كان ما فعلوه عظيم البشاعة، اشتد التشوف إلى جزائهم عليه فأخبر عنه سبحانه بقوله معبرًا بالاسم الأعظم إشارة إلى وضوح ضلالهم وعظم تهديدهم معريًا له عن الفاء لئلا يتوهم أن الحفظ مسبب عن الاتخاذ المذكور عادلًا إلى التعبير بالجلالة تعظيمًا لما في الشرك من الظلم وتغليظًا لما يستحق فاعله من الزجر: {الله} أي المحيط بصفات الكمال {حفيظ عليهم} أي رقيب وراع وشهيد على اعمالهم، لا يغيب عنه شيء من أحوالهم، فهو إن شاء أبقاهم على كفرهم وجازاهم عليه بما أعده للكافرين، وإن شاء تاب عليهم ومحا ذلك عينًا وأثرًا، فلم يعاقبهم ولم يعاتبهم، وإن شاء محاه عينًا وأبقى الأثر حتى يعاتبهم {وما أنت عليهم بوكيل} أي حتى يلزمك أن تراعي جميع أحوالهم من أقوالهم وأفعالهم، فتحفظها وتقسرهم على تركها ونحو ذلك مما يتولاه الوكيل مما يقوم فيه مقام الموكل سواء قالوا {لا تسمعوا لهذا القرآن} أو قالوا {قلوبنا في أكنة} أو غير ذلك. اهـ.
والصفة الثالثة قوله: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} وهذا يدل على مطلوبين في غاية الجلال أحدهما: كونه موصوفًا بقدرة كاملة نافذة في جميع أجزاء السماوات والأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد والإعدام والتكوين والإبطال والثاني: أنه لما بيّن بقوله: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أن كل ما في السماوات وما في الأرض فهو ملكه وملكله، وجب أن يكون منزّهًا عن كونه حاصلًا في السماوات وفي الأرض، وإلا لزم كونه ملكًا لنفسه، وإذا ثبت أنه ليس في شيء من السماوات امتنع كونه أيضًا في العرش، لأن كل ما سماك فهو سماء فإذا كان العرش موجودًا فوق السماوات كان في الحقيقة سماء، فوجب أن يكون كل ما كان حاصلًا في العرش ملكًا لله وملكًا له، فوجب أن يكون منزّهًا عن كونه حاصلًا في العرش، وإن قالوا إنه تعالى قال: {لَّهُ مَا فِي السماوات} وكلمة ما لا تتناول من يعقل قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول: أن لفظة ما واردة في حق الله تعالى قال تعالى: {والسماء وَمَا بناها والأرض وَمَا طحاها} [الشمس: 5 - 6] وقال: {لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 2، 3] والثاني: أن صيغة من وردت في مثل هذه السورة قال تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِى الرحمن عَبْدًا} [مريم: 93] وكلمة من لا شك أنها واردة في حق الله تعالى فدلّت هذه الآية على أن كل من في السماوات والأرض فهو عبد الله فلو كان الله موجودًا في السماوات والأرض وفي العرش لكان هو من جملة من في السماوات فوجب أن يكون عبد الله، ولما ثبت بهذه الآية أن كل من كان موجودًا في السماوات والعرش فهو عبد لله وجب فيمن تقدست كبرياؤه عن تهمة العبودية أن يكون منزّهًا عن الكون في المكان والجهة والعرش والكرسي.والصفة الرابعة والخامسة قوله تعالى: {وَهُوَ العلي العظيم} ولا يجوز أن يكون المراد بكونه عليًّا العلو في الجهة والمكان لما ثبتت الدلالة على فساده، ولا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثة وكبر الجسم، لأن ذلك يقتضي كونه مؤلفًا من الأجزاء والأبعاض، وذلك ضد قوله: {الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فوجب أن يكون المراد من العلي المتعالى عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات، ومن العظيم العظمة بالقدرة والقهر بالاستعلاء وكمال الإلهية.ثم قال: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} وفيه مسائل:المسألة الأولى:قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر {تَكَادُ} بالتاء {يَتَفَطَّرْنَ} بالياء والنون، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة {تَكَادُ} بالتاء {يَتَفَطَّرْنَ} بالياء والتاء، وقرأ نافع والكسائي: {يَكَادُ} بالياء {يَتَفَطَّرْنَ} أيضًا بالتاء، قال صاحب (الكشاف): وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة {تتفطرن} بالتاءين مع النون، ونظيرها حرف نادر، روي في نوادر ابن الإعرابي: الإبل تتشمسن.المسألة الثانية:في فائدة قوله: {مِن فَوْقِهِنَّ} وجوه الأول: روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} قال والمعنى أنها تكاد تتفطر من ثقل الله عليها.واعلم أن هذا القول سخيف، ويجب القطع ببراءة ابن عباس عنه، ويدل على فساده وجوه: الأول: أن قوله: {مِن فَوْقِهِنَّ} لا يفهم منه ممن فوقهن وثانيها: هب أنه يحمل على ذلك، لكن لم قلتم إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الله عليها، ولم لا يجوز أن يقال إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الملائكة عليها، كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد» وثالثها: لم لا يجوز أن يكون المراد تكاد السماوات تنشق وتنفطر من هيبة من هو فوقها فوقية بالإلهية والقهر والقدرة؟، فثبت بهذه الوجوه أن القول الذي ذكروه في غاية الفساد والركاكة والوجه الثاني: في تأويل الآية ما ذكره صاحب (الكشاف): وهو أن كلمة الكفر إنما جاءت من الذين تحت السماوات، وكان القياس أن يقال: يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة، ولكنه بولغ في ذلك فقلب فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن، ودع الجهة التي تحتهن، ونظيره في المبالغة قوله تعالى؛ {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رءوسهُمْ الحميم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود} [الحج: 19، 20] فجعل مؤثرًا في أجزائه الباطنة الوجه الثالث: في تأويل الآية أن يقال: {مِن فَوْقِهِنَّ} أي من فوق الأرضين، لأنه تعالى قال قبل هذه الآية {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ثم قال: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} أي من فوق الأرضين والوجه الرابع: في التأويل أن يقال معنى {مِن فَوْقِهِنَّ} أي من الجهة التي حصلت هذه السماوات فيها، وتلك الجهة هي فوق، فقوله: {مِن فَوْقِهِنَّ} أي من الجهة الفوقانية التي هن فيها.
|